إتحاف الصدور بمناقب الشيخ الرياحي قدور.

حمزة عبدالرحيم سي فضيل

اسمُ الكاتب : حمزة عبدالرحيم سي فضيل.
إجمالي القراءات : ﴿1517﴾.
عدد المشــاركات : ﴿10﴾.

■ قدّور بن عبدالقادر بن الحبيب بن محمّد بن امحمّد المشهور بالحاج قدّور الرِّياحي ولقبه أبو بكر وهي العائلة المستقرة بدوار الجفافلة ببلدة البرج.
ولد سنة 1346هـ / 1928م بأولاد رياح قرب مسراتة (القلعة) والبرج بمعسكر الجزائرية.
يسّر الله لنبوغه سُبلاً وهيّأ له أسباباً حقّقت له التّفوّق والتّميّز بين أقرانِه، ومنها أنّ الشّيخ وُلد بمنطقة جبليةٍ عانت من ويلات التّضييق وعاشت أصنافًا من التّهميش والتّجهيل من طرف المحتل وكلّ هذه الظّروف كوّنت العزيمة والإصرار والتحدي لأبناء الوطن.
ويذكُر أقاربُه أنّ رسالةً هامّةً تحمل خبراً عن مصير عمّه المفقود والمسمّى الحاج العربي وقت الحرب العالميّة، لكن تعذَّر على الجميع قراءتها أو معرفة بعض فحواها ومحتواها حتى وصل الأمر إلى البحث عن من يفك كلماتها ولو من خارج المنطقة. حينها أَقسمَ جدُّه الحاج الحبيب أن يُجَهِّزَ مكانًا لتعليمِ القرآن الكريمِ ويُحضِرَ معلمًا مدرسًا يُعلّم أبناءَه وأحفادَه. وبالفعل قد تمّ الوفاءُ وتحقّقَ الرّجاءُ وصار لِلحاج الحبيب سبعة من الأولاد والأحفاد يحفظون القرآن حفظًا ومنهم مترجمنا السيد قدّور.
تعلّم في بداية أمرِه على الشّيخ البغدادي ثم واصل السّفر لطلب العلم كعادة الطلبة آنذاك شريطة أن يحضُر كلّ رمضان إلى الأسرة ليصلّي بهم التّراويح إمامًا وهو شرط جدِّه وذلك سنة 1939م.
ولِتَوقُّد حافِظته كان الطّلبة يُجلِسونه على الوسادة لضعف بُنيته ونحالة جِسمه ويُلبسونه لباس المشايخ لِيُملي عليهم في الألواح ويسمّى في عُرف الطلبة (الفتية).
لم تتوقّف مسيرة الطّلب عند حِفظ القرآن بل تواصل الجِدّ في العلم اللّغوي والشّرعي فمن قريته إلى جامع البلاغة عند الشيخ سي أحمد بوجلال رحمه الله إلى منطقة فرطاسة (وادي الأبطال) عند الشيخ حمادوش بن الطاهر رحمه الله ثم إلى الشلف حيث تلقّى علومَ العربية وبعض مُتون الشريعة عند الشيخ العالم سي الجيلالي بن عبدالحكم اليحياوي العطافي رحمه الله سنة 1952 ودرس أيضا على ولده الشيخ سي أحمد عتبة رحمه الله علوم النحو والبلاغة والمنطق والفرائض كما انتقل إلى زاوية الشيخ بلحول قرب وادي الخير بمستغانم لينهل من علوم الشريعة واللغة عند العلامة العروسي الحاج قدور و الشيخ الميهوب رحمهما الله تعالى. كما كان له اتّصال وحضورٌ وتأثّرٌ بمجالس علماء النّاحية كالشّيخ أبي عبدالله البطيوي والشّيخ الطّيب المهاجي والشيخ شنتوف المعسكري وغيرهم.
والمتمعِّن لهذا الثّبت في المشْيَخة يخلُصُ إلى أنَّ الجُلوسَ بينَ يدي المشايخ والتنقُّل بين الحواضرِ العلميّةِ أمرٌ لابدّ منه لكلّ من يَرومُ التّدريس والتّكوين. فشيخُنا كان واسطةً بين جيلين وحلقةَ وصلٍ بين أهل العلم السابقين واللاّحِقين.
ومن الإجازات التّي أخذها الشّيخ نذكر إجازةً في القرآن الكريم من عند الشّيخ عبدالقادر بن جلول الزروالي رحمه الله وإجازتان في الفقه إحداهما من تنس والأخرى من عين مطبول.
وفي سنة 1957 انخرط في صفوف الثُّوار وأُلقي عليه القبض وسُجن لمدّة 17 شهرا تعرّض خلالَها للتّعذيب ثمّ أُطلِق سراحُه ليُعاد سجنُه مرّة أخرى وقبلها قد ظنّ الجميعُ أنّ الشّيخَ قُتل عام 1955، بعدها اختبأ بمطمورة أيامًا عِدّة فدخل غليزان ثم مستغانم. لذلك كان يشِعُّ وطنيّة من خلالِ خُطبه ودروسه ومواعِظه.
استقرّ بمدينة مستغانم منذ الاستقلال وامتَهن تجارة المجوهرات رفقة العديد من طلبة القرآن الكريم والعلم الشريف وعُرِضت عليه الوظيفة ففضل التطّوُّع في مساجد الولاية.
ومن الأحداث التّي وقعت له خارج الوطن رحلتُه لفلسطين وزيارتُه للمسجد الأقصى والقدس الشّريف محطّةً لا تُنسى وتِلك عادة قديمة كان الحجّاج يحافظون عليها، حيث يشُدّون الرِّحال إلى المُقدَّسات الثّلاث بزيارة ثالث الحرمين الشّريفين. ومن حظّ الشّيخ أن اللهَ تعالى قد أكرمه بالصّلاة في المسجد الأقصى.
ابتدأ التّدريس معيداً ومساعداً في مدرسة عُتبة بن عبدالحكم وهو شاب بغليزان ثم صار يُدرّس الفقه بمدرسة التّهذيب بحيّ تجديت العتيق وفي سنة 1980م عيّنه مدير الشّؤون الدينيّة مشرفا على دورات التّكوين للأئمّة خصوصا الفقه (مختصر خليل بن إسحاق الجنديّ) والنحو (الآجروميّة والألفيّة لابن مالك بشرح ابن عقيل) وعلم الصرّف (لاميّة الأفعال لابن مالك بشرح بحرق) والجوهرة لإبراهيم اللّقاني في علم التّوحيد.
ويُعتبر أيضا ذاكرةً حيّة ومرجعا في كثير من المناقشات التاريخية والثقافية والدينية في الناحية الغربية بحكم معايشته لأهم الأحداث والأجيال قبل وإبّان وبعد الثورة المظفّرة.
له صيحَة مميّزة وصوت جهوريّ رنّان اشتهر به في دروسه وخطبه ومواعظه بعدّة مساجد إماما أو مدرسا أو واعظا مفوّها في مختلف المناسبات أو التأبينات.
يُفضل أنْ يُسمّيه النّاس بالطّالب ويدعو إلى الحفاظ على الوطن ناصحا الأجيال في كل مقام.
ومن سلوكه أن يتنقّل إلى محلّه رغم تقدّمه في السّن مشيًا مخالطاً النّاس يصبر على أذى بعضهم في كثير من الأحيان ويُلَبّي دعواتهم ويرتاد السّوق ويفضّل الجلوس على الأرض مع طلبته يقرأ المتن أولا ثم يعرِبه ثم يشرع في شرحه المبسط بكل تلقائيّة محاولاً فكّ لغزه وإيضاح مبهمه وفتح مُقفله، يسأل عن ما مضى من الدروس رابطا السّابق باللاّحق متجنبا إحراج الكبار بالاختبار ولا تخلو مجالسه من الدّرر والنّوادر وبعض الطّرف يسّر الله لي أن حضرت بعضا منها في مجالسَ عامّة وخاصّة وعُرِف بعطائه وكرمه على الطّلبة بصدقة الإطعام عند اختتام كلّ موسم راجيّا منهم المسامحة والدعاء له.
وقد زاره الوزير الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله وأثنى عليه بمسجد عقبة بن نافع في بداية الثّمانينات لمّا سمِع سردَه لنَسب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأُعجِب بفصاحته كما كانت علاقاته بأهل العلم طيبة وثيقة ومنهم الشيخ سي الطّيب بويجرة والشيخ محي الدين فرحاوي والشيخ الطاهر بن شهيدة والشيخ البشير عدنان والشيخ بن راشد رحمهم الله جميعا. ولا ننسى صلته القوية بأقرانه من المشايخ أمثال الشيخ بعطوش عبدالقادر والشيخ الجيلالي بلمهدي.
وكثيرا ما رفض بعض الأعمال المصورة التي تترجم لحياته أو تصدّر المشهد كما يلهث بعض النابتة مفضلا كسب العيش بالتجارة ونفع النّاس بالتّطوع، وفي إحدى خواطر الشيخ الفقيه بن حنفية العابدين صرح أن الشيخ سي قدور الرياحي أسندت إليه رئاسة بعثة الإفتاء في الحجّ منذ مدة فلما علِم بقدوم الشيخ بن حنفية رفضها وأصرّ على إسنادها إليه تواضعا واعترافا رغم ما بينهما من اختلاف في بعض المسائل مشيرا أن باب الحجّ هو أكثرُ الأبواب الفقهية اتّفاقًا بين المذاهب وأضيقها اختلافا. وهو موقف معروف عند الكثير من العلماء العاملين.
واستمر الشيخ أبو بكر قدور في عطائه وتدريسه أمينا للمجلس العلمي بمديرية الشؤون الدينية حتى أنهكه المرض وتقدمت به السّن وجاوز التسعين من عمره. توفاه الله فجر الجمعة من شهر ربيع الأنوار 1444هـ الموافق 07 أكتوبر 2022م عن 94 عاما بعد حياة حافلة من البذل والعطاء فكان رحمه الله متميزا في كل شيء علمًا، حفظًا، سلوكًا وهيئة وهيبة حتى في مظهره ولباسه العربي الإسلامي الأصيل.
وقد صلى الجنازة عليه جمع غفير في بمسجد قباء بحي جبلي حيث امتلأ عن آخره، مع تعذّر حضور الكثير من العلماء ورفاق وطلبة وأحباب الشيخ لضيق الوقت وتزامن الجنازة مع الجمعة .
وأَمًّ الجنازة الشيخ الأستاذ سي عبدالرحمن بن زيان بن الشيخ سي المدني المدير السابق ورفيق الشيخ.
رحم الله الشيخ الحاج قدور أبو بكر برحمته الواسعة.
■ المواد المنشورة في مَنْهَل تعبر عن رأي كاتبها. ويحق للقارئ الاستفادة من محتوياته في الاستخدام الشخصي مع ذكر المصدر. مُعظَم المقالات أعيد ترتيب نشرها ليتوافق مع الفهرسة الزمنية للقسم.
Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.